English site www.aliamamdouh.com
تأريخ الرواية النسائية العربية
اسماعيل الملحم
منذ السطرين الأولين اللذين تفتتح بهما (د. بثينة شعبان) دراستها الهامة (100 عام من الرواية النسائية العربية- 1999)، وعبر تسعة فصول تطرح الدراسة بجرأة موضوعية إشكالية الأدب النسائي العربي وتدين تهميش دور المرأة في ريادة الفن الروائي العربي. وتؤرخ الدراسة، كما يقول -محيي الدين صبحي- للوعي النسائي العربي بالفن والمجتمع.
وعبر فصول الكتاب كافة تتحدث الباحثة عن (الرواية النسائية العربية خلال قرن كامل عبر فرش اقتصادي اجتماعي سياسي نضالي تحرري) (محيي الدين صبحي في مقدمة للكتاب) من الخرافة القول إن المرأة خلقت للإنجاب والأعمال المنزلية فقط. ص15.
هل تدرج المشكلة في باب المنافسة بين الرجل والمرأة على أي منهما كانت له ريادة هذا الجنس الأدبي أو ذاك؟ وهل الكتاب استمرار في نهج التأريخ لما عرف بالشعر الحديث أهي نازك الملائكة رائدة هذا النمط الشعري؟ أم أنه السياب أو غيره من الشعراء الرجال؟
تلجأ الباحثة إلى الوقائع فلا تصدر أحكامها جزافاً، بل هي حين تطرح رأياً أو تقرر واقعاً موجوداً على الأرض، وهذا أبرز إيجابيات الكتاب، فإنها تقوم بقراءة شاملة، أو أنها تجري مسحاً شاملاً واسعاً تضعه على مائدة المتلقي عبر عرضها لروايات كتبتها نساء عربيات من مشرق الوطن العربي ومغربه.. منذ السنوات الأخيرة للقرن التاسع عشر (رواية حسن العواقب أو غادة الزهراء لزينب فواز 1899) وبدايات القرن العشرين (قلب الرجل) للبيبة هاشم 1904، حسناء سالونيك للبيبة ميخائيل صوايا 1904،
حيث تجد فيها الباحثة الحقيقة التي لا لبس فيها أن النساء العربيات قد أسسن للرواية العربية قبل أي رجل. وذلك من خلال أن المرأة قادرة على السرد وأن شخصيتها ووظائف الأمومة لديها مساعدان على هذه الوظيفة. وصورة الجدّة ليست صورة غريبة على أحد ولعلها إحدى تجليات قدرة المرأة على السرد.
وفي إجابة غير مباشرة على أولئك الذين يستنكرون تصنيف النتاج الأدبي إلى أدب نسائي وآخر ذكوري تقول الباحثة إن الرجال والنساء يكتبون بشكل مختلف لأنهم مخلوقات تحمل تجارب تاريخية ونفسية واجتماعية وثقافية مختلفة. وأن رفض بعض الأديبات (لطيفة الزيات..) مصطلح الأدب النسائي لأنه برأيهن ينتقص من اهتمامات النساء قد ساعد على تثبيت الفكرة القائلة: إن وصف أدب ما بذلك هو من الأمور المهينة، أو أنه يبقي الأعمال النسائية في الدرجة الثانية..
وتصر الباحثة في مواضع مختلفة من الكتاب على كون كل من الجنسين يكتب بطريقة مختلفة عن الجنس الآخر. وأن هذا الرأي ليس بدعاً، فقد سبق إليه كل من (فيرجينيا وولف) و(سيمون دوبوفوار) وسواهما..
وتلتقي الباحثة مع الكاتبات الغربيات (وولف، دوبوفوار، وديل سبيندر) في أن الأدب النسوي تعرض خلال التاريخ إلى الإهمال والتهميش. وتضيف أن تاريخ الأدب العربي أيضاً يفصح عن هذا الأمر عبر مراحله المختلفة، بل يكاد الإهمال والتهميش أن يكون السمة البارزة فيه.. فمعظم الشعر العربي الذي أبدعته شاعرات عربيات إما أنه لم يسجّل أو أنه ضاع بعد تسجيله مع أن ما وصلنا منه يشير بجلاء إلى اتساع المساحة التي ارتادتها الشاعرات في معالجة قضايا الحرب والسلم والعدالة وتوزيع الثروة.. كما أن شعرهن اتصف بشجاعة وجرأة قد لا تمتلك مثلهما الأديبة المعاصرة بخاصة في مجال العشق والحب ومطارحة الغرام (مثال ليلى الأخيلية).
وفي العودة إلى الفن الروائي تثبت الباحثة في أكثر من موضع أسبقية النساء في فعل القص. فالنساء هنّ القاصات الأول في تاريخنا.. ومن ينسى منا شهرزاد راوية (قصص ألف ليلة وليلة) وبطلتها. لكن الأدب النسوي أهمل حين تم تدوين التراث الشفوي ..
وإن ما يقال عن أن رواية (أروى بنت الخطوب 1949) لوداد سكاكيني هي الرواية النسوية الأولى في تاريخ فن الرواية العربية فإن فيه الكثير من التجاهل أو الجهل فقد ظهرت روايات بأقلام نساء عربيات عديدة قبل ذلك التاريخ رواية (حسن العواقب) صدرت في بيروت عام 1899 وبعد ذلك تعاقب صدور الروايات النسائية. أي أن حسن العواقب قد سبقت (زينب) لمحمد حسين هيكل بخمسة عشر عاماً.
ولا تكتفي الباحثة في عرض روايات لجيل الرائدات (زينب فواز، عفيفة كرم، لبيبة هاشم، فريدة عطايا..) ولكنها تتابع الرحلة مع تطور فن الرواية العربية النسائية مرحلة مرحلة ولا تبخل في عرض العديد من هذا النتاج الروائي. وتتوقف الباحثة عند ما تراه نكسة عظيمة تعرضت لها مكانة المرأة في العقود الثلاثة التي سبقت منتصف القرن العشرين بسبب من ظهور نزعات تسلحت بالقومية الاشتراكية (النازية)، ومن ما أثير في الاتحاد السوفييتي من آمال في تحطم الآمال من نظام المجتمع الأبوي ومما عانته الحركات التحررية في أمريكا من تغلغل الأفكار الفرويدية التي رأت فيها الباحثة خدمة للمواقف الرجعية من قضية المرأة بعامة. لكن هذه الفترة بالنسبة للوضع العربي كانت مختلفة فقد لعبت النساء دوراً هاماً في حركات التحرر من الانتداب وقد تأسس الاتحاد النسائي العربي عام 1928 أي قبل إنشاء جامعة
الدول العربية بحوالي العشرين عاماً. واستمر النشاط النسائي متفاعلاً مع الأحداث معبراً عن آمال التحرر والوحدة والتقدم..
وقد برز ذلك في الروايات النسائية التي لم تكن متشابهة مع ما أصدره الرجال بل عبرت عن فرص متكافئة معهم وأصبحت أصواتهن - أي النساء- تسمع بشكل أفضل. وهو ما تقرأه الباحثة في رواية (أسرار وصيفة مصرية) لزينب محمد وفي (الرهينة) لأميلي نصر الله مروراً بـ (أروى بنت الخطوب) و(جريمة رجل) لصبرية محمد و(الرجل هو الجاني ) و(الحجاب المهتوك) لهند سلامه و(الحب والوحل) لأنعام مسالمة. وتتوقف الباحثة بدهشة إلى موقف النقاد من الرواية النسائية في تلك الفترة وما تلاها وتتوقف عند نقد (حسام الخطيب) لرواية (في الليل) لهيام نويلاتي، وهو الموقف الذي أثر في جيل من طلبة وطالبات كلية الآداب بدمشق ممن تتلمذوا على يديه.
وتفتتح الكاتبة الفصل الرابع من الكتاب بعرض رواية (الجامحة) للمصرية (أمينة السعيد) مبينة أوجه الاختلاف بينها وبين روايتي (أنا أحيا) لليل بعلبكي، و(أيام معه) لكوليت خوري، وتعرض لما تعرضت له بعلبكي من هجوم ونقد أفصحت عنه الأخيرة في مقدمة روايتها التالية (الآلهة الممسوخة) وتكشف كل من كوليت وليلى عالم المرأة بتفاصيله الدقيقة وأبعاده الواسعة وهو ما تابعته سعاد زهير في (اعترافات امرأة مسترجلة).
القاسم المشترك في روايات هذه المرحلة هو إبراز القضايا الرئيسية التي تشغل بال النساء العربيات.
ويغطي الباب الخامس الفترة من 1960 إلى 1967 حيث يبرز الكتاب خطل من يرى أن الروايات النسائية لا تركز إلا على الحب والأسرة والأطفال. فمع مشروعية هذه المواضيع وأهميتها بالنسبة للمرأة وهي الخبيرة والفاعلة في هذا المجال، إلا أن روايات هذه الفترة كانت سياسية أكثر منها اجتماعية وهذا ما تصل إليه الباحثة من خلال قراءتها لروايات: لطيفة الزيات، ليلى اليافي، منى جبور، كوليت خوري، حياة بيطار، ماجدة العطار، وإميلي نصر الله..
إنهن -كل على طريقتها- يحللن الواقع ويقومنه من نواحيه الاجتماعية والسياسية ويستحضرن رؤيا جديدة تضع الأسس من أجل إعتاق كل من الرجال والنساء ومن أجل البقاء السياسي والازدهار المستقبلي للأمة العربية بكاملها.
لقد استغرقت الروائيات العربيات عميقاً في المصير الوطني والقومي وساهمن في كشف عيوب المجتمع، إنهن كن مساهمات في أدب الحرب ونسجن نسيجاً واسعاً من العلاقات يلعب فيها حدوث الحرب دوراً واسعاً، بينما انصرف الرجال للحديث عن خطر الجبهة وساحة الوغى. وهذا ما وجدته الباحثة في قراءة (دمشق يا بسمة الحزن) لالفت الإدلبي، (عصافير الفجر) لليلى عسيران، (الدوامة) لقمر كيلاني، (وداع مع الأصيل) لفتحية محمود المانع، (تشرق غرباً) لليلى الأطرش، (سأمر على الأحزان) لبلقيس حوماني و(ليلة المليار) لغادة السمان..
في قراءتها لروايات حميده نعنع، حنان الشيخ، هدى بركات، أحلام مستغانمي ترى الباحثة أن مرحلة جديدة قد بدأت في تاريخ الرواية العربية التي كتبتها النساء. صار لهذه الروايات قراء أكثر عدداً في الوطن العربي وفي خارجه من خلال ترجمة العديد منها إلى الانكليزية بخاصة. وحققت هذه الرواية قفزة هامة تمثلت في عمق تفهمها للأوضاع السياسية وفي النهج الذي يستند إلى مقولة أن ما هو شخصي هو
سياسي في النهاية. كما اتضح هذا التطور الكبير في التقنيات التي اتبعتها الروائيات وهي مختلفة عندهن عن ما هو لدى الرجال، حيث امتزج الاهتمام بتحرير المرأة مع الهم الوطني وهو ما يشير بوضوح وجلاء إلى أن المرأة لم تعد ترضى بالعيش على هامش الأحداث في أكثر أوقات الاضطراب في الحياة العربية. انخرطت المرأة في مصير البلاد وفي التفاصيل الدقيقة كمعركتها ضد التمييز والقمع وهذا كله أتى تحت عنوان (تجليات) لتنتقل الباحثة إلى فصل جديد جعلت عنوانه (سيدات المهنة)، بثقة لا لبس فيها انخرطت المرأة الأديبة والكاتبة في العمل السياسي تنقب في الماضي وتطرح رؤاها عن المستقبل العربي.. وهو ما فعلته الفت الإدلبي (سورية) ليلى أبو زيد (المغرب) أحلام مستغانمي (الجزائر)، عالية ممدوح وسميرة المانع وهادية سعيد (العراق)، عروسية النالوتي (تونس)، رضوى عاشور ونوال السعداوي (مصر) إلى ليل العثمان (الكويت). فتحن الأبواب المحرمة في الميدان السياسي والاجتماعي، وكشفن الأقنعة وفضحن مظاهر الخوف (الخوف الذي يطارد الناس، الخوف من الحكم، الخوف من المخبر، الخوف من حكم الإعدام) هذا الخوف الذي لا يُعرف له مسوغ.
ثبتت الأقلام النسائية أقدامها بجرأة وجدارة فأصبحت روايات: سلوى بكر، نجوى بركات، سمر خليفة موضع اهتمام النقاد وموضع نقاش على مساحة الساحة الأدبية العربية وقد حصد بعض أولئك جوائز أدبية هامة.
وفي الفصل الأخير من الكتاب تعرض الباحثة لمستقبل الرواية النسائية العربية وقد أسهبت في الحديث عن تجربة سحر خليفة الهامة والتي استمرت خلال عشرين عاماً ونيف لتكون الروائية الأكثر اهتماماً من جيل القراء والمتلقين، يقرأ لها العرب من محيطهم إلى خليجهم. فإذا قررت الباحثة منذ البداية أن زينب فواز كانت أول من خط الرواية في الأدب العربي وقد أهملها النقاد طويلاً فإن سحر خليفة قد حضرت بقوة إلى ساحة النقد ولم يعد بإمكان أي ناقد جاد أن يتجاهل الرواية النسائية بخاصة روايات (سحر خليفة). فمن يتجاهل بعد الآن (الميراث) و(الصبار) و(عباد الشمس) وقد تعدّت شهرة هذه الروايات حدود الوطن العربي لتترجم إلى لغات عدة. فقد أثبتت خليفة أنها روائية لها قضية وهي كاتبة جادة وملتزمة أتقنت فن الرواية وامتلكت ناصية اللغة.. وهي مع الوقت تزداد كتابتها شاعرية وألقاً بخاصة في (مذكرات امرأة غير عادية -1986).
وتتساءل الباحثة مرة أخرى: هل استطاعت المرأة العربية حسم الصراع بينها كذات وبين المجتمع؟ وتجيب من خلال قراءة سحر خليفة مجدداً ما زالت الفتاة العربية تعيش أزمة هوية وهنا يكمن جوهر رواية (سحر) رواية المقاومة مقاومة المرأة لواقع ورثته دون أن ترتضيه لنفسها أو تستكين له، لكنها لا تزال لا تستطيع أن تتجاوزه.
في رواية (باب الساحة- 1990) تقدم سحر كاشفة عن دور المرأة في الانتفاضة والمقاومة. إنها العمود الفقري للمواجهة فما زالت المرأة تخاف من نتاج حملها (صبي أم بنت) وهي التي تظهر الصلابة ولا تبخل في التضحية في مواجهة العدو.. فهي تدعو إلى صوغ صورة جديدة للمرأة. وفي (الميراث) الرواية العربية الوحيدة التي ناقشت بجرأة وواقعية والتزام وشعور أكيد بالانتماء وإيمان كامل بالمصير العربي وبمستقبل الأمة، [إن (الميراث) كابوس يحل على القارئ العربي الوطني فيشعر بالإحباط والقلق والغضب أيضاً].
وترى الباحثة ـن (نجوى بركات) تعد بميلاد موهبة روائية جديدة ذات شأن على مستقبل الرواية العربية وذلك من خلال قراءة كل من روايتي (باص الأوادم) و(يا سلام) ولا تغفل الباحثة في هذا الفصل عن الإشارة إلى ما أحدثته راويات أخريات في تطور الرواية النسوية وذلك في عرضها لرواية (العربة الذهبية لا تصعد إلى السماء) لسلوى بكر ورواية (فوضى الحواس) وهي الجزء الثاني من (ذاكرة الجسد) لأحلام مستغانمي وكذلك تعرض لرواية (الباذنجانة الزرقاء) لميرال الطحاوي ولرواية (حوار بلا كلمات) لليلى عسيران.
لقد قدمت الباحثة د. بثينة شعبان من خلال هذا الكتاب معلومات غنية وتحليلات ذات قيمة عالية أثرت المكتبة العربية. وسيكون كتابها هذا بلا شك مرجعاً لا غنى عنه لكل من سيبحث مستقبلاً في تاريخ الفن الروائي العربي بعامة وفن الرواية كما ظهر على أيدي كاتبات عربيات ويقدم هذا الكتاب ببلوغرافيا شاملة عن الروايات التي خطتها أقلام النساء العربيات. ولا يستطيع المتلقي إلا أن يشيد بالجهد المبذول وبالمسح الشامل الأفقي والعامودي لهذا الفن الأدبي وهو جهد كريم يفصح عن سعة في إطلاع الباحثة وفي امتلاكها ناصية البحث لما أبرزه هذا الكتاب عما صرفته من الوقت والعمل والتنقيب الذي لا يبذله إلا كل باحث صبور دؤوب وعالم نزيه.
ونحن على موعد مع الباحثة لمتابعة مسيرة الرواية العربية النسائية من جديد وهو ما أكدته مرة جديدة في قولها: إن المرأة التي نقلت حرفة النسيج من جيل إلى جيل هي ومنذ شهرزاد ملكة القص والحكاية.
ولربما كان للقص والحكاية عند العرب رائدات أخريات سبقن شهرزاد خلال الحقب الأبعد من تاريخنا الموغل في القدم
< السابق | التالى > |
---|